درس العمر: غفوة ضمير واستيقاظه
بقلم: أ.خالد عيد العتيبي
في جلسة شتوية هادئة وفي أجواء المخيم، جلس أمامي معلم متقاعد، بدت على ملامحه آثار سنوات من التفكير العميق. بادرني بالحديث بصوت هادئ يشوبه ألم الماضي، قائلاً: يابو عبدالله بما أن تقدم دورات خلني أقول لك شيء ما غاب عن بالي يومًا. كنت في بداية عملي كمعلم، وعندي طالبين كانوا دايم ينافسون على المركز الأول. واحد منهم كان قريبي، والثاني طالب يستحق بجدارة. لكني… غلطت. نقصت من درجات الطالب المستحق، عشان قريبي يصير الأول، والطالب الثاني يصير الثاني.
توقف قليلاً، ثم تابع بعد أن أخذ نفسًا عميقًا:
سنوات مرت، وهذا الشيء ما تركني أبدًا. كل ليلة، يجيني تأنيب الضمير. كنت أشوف صورته قدامي، وأستعيد اللحظة وأنا أنقص درجته بدون وجه حق. حتى بعد ما تقاعدت، كان الندم يلاحقني. عجزت عن تجاوز ما حدث، فقررت أن أبحث عنه.
كان يكلمني، وعيناه تحملان مزيجًا من الحزن والأمل وهو يستعيد شريط الذكريات ثم قال: بحثت عن هذا الطالب طويلًا وسألت لين حصلت رقمه. كنت مترددًا جدًا قبل ما أرفع السماعة، لكن في النهاية قلت لازم أواجه غلطتي. اتصلت عليه، ولما رد، قلت له: أنا فلان، معلمك القديم. هل تذكرني؟، وبدأت أشرح له كل شيء. اعترفت بغلطتي كاملة، وقلت له: أنا ظلمتك ونقصت درجتك بدون حق، واليوم أنا مستعد لأي شيء تطلبه مني، بس سامحني.
يقول: كان يسمعني بهدوء ولم يقاطعني لدرجة كنت أقول بين كل لحظة “ألو وأتأكد أنه على الخط”. وبعد ما خلصت، قال لي كلمة واحدة ما أقدر أنساها: ما أسامحك إلا بشرط .. وسألته: وش الشرط؟
رد: تتغدى أو تتعشى عندي، وبعدين نتكلم.
وأكمل .. حاولت أتناقش معه بالتلفون، قلت له خلنا نحل الموضوع الآن. لكنه أصر: ‘ما أفتح معاك الموضوع إلا لما تجي.’ قلت له تم، وحددنا موعد.
توقف قليلًا وكأنه يرى المشهد أمامه، ثم استأنف حديثه: رحت له بيته في اليوم المحدد. تغدينا وكان موجود أخوه واثنين من أصدقائه. عرفني عليهم، وأكثر من الثناء عليّ قدامهم. كنت منتظرًا الفرصة للحديث عن الموضوع، لكنه ما فتحه معي أبدًا. ولم يترك لي المجال، ولما خلصنا وأستأذنت، تبعني عند السيارة وقال لي: “تراك مسامح دنيا وآخرة ومحلل. ولا يعلم عن اتصالك ولا سبب العزيمة ولا عن الموضوع أحد لا من قريب ولا من بعيد”.
صمت المعلم المتقاعد للحظة، وكأن الكلمات ثقيلة عليه، ثم قال بصوت يحمل مزيجًا من الحزن والراحة: والله يا بوعبدالله، شعرت وقتها وكأن جبل وهم انزاح عن صدري. ما أنكر أن الندم ما زال موجود، لأن الغلط كان كبير. لكن راحة السماح لا توصف. تعلمت درس العمر متأخر جدًا: الاعتراف بالخطأ يخفف الألم، لكن المسامحة هي اللي تريح القلوب.
أما أنا فلم أستطع أن أعلق على كلماته، وشعرت بثقل الموقف وعمقه. وكل ما استطعت قوله هو: “جزاك الله خير، والله يعفي عنك.” ثم استأذنته أن أعيد صياغة قصته وأنشرها. فوافق بشرط: “تعطيني موعد غداء أو عشاء.” ولأن الموقف يستحق، قبلت الدعوة.
وعودة على التفاصيل:
الطالب لم يجعل المسامحة مسألة نقاش، بل أظهر كرامته وقيم عالية عندما أصر على لقاء المعلم في جو مليء بالاحترام، قبل أن يمنحه العفو. معطيًا المعلم درسًا في أن الأخطاء يمكن أن تُغتفر عندما نضع الإنسانية أولاً، ورغم معرفة الطالب بالخطأ، لم يوجه للمعلم أي لوم أو عتاب مباشر أثناء اللقاء. بل اختار أن يتعامل معه بطريقة تليق بمن يُدرك قيمة التسامح، مما جعل المعلم يشعر بالندم والامتنان أكثر من أي عتاب قد يقال.
والمعلم تعلم أن الأخطاء قد تحدث، لكن تصحيحها بالاعتراف والمواجهة يمنح الفرصة للراحة والشفاء. وتعلم أن التسامح من الطرف الآخر هو درس في الرحمة والقوة، ويعطي الأمل في أن القلوب الطيبة قادرة على تجاوز أي خطأ.